الثلاثاء، 3 فبراير 2015

العالم الفيزيائي العراقي الميساني الدكتور عبد الجبار عبد الله






ولد الدكتور عبد الجبار عبد الله في مدينة قلعة صالح ( لواء العمارة) بولاية البصرة العثمانية عام 1911، في بيت معروف برئاسته الدينية للطائفة الصابئية المندائية، فوالده الشيخ عبد الله ابن الشيخ سام، كان الرئيس الروحاني الأعلى للطائفة في العراق والعالم. وكانت والدته السيدة (نوفه رومي الناشئ) وهي من عائلة معروفة بين أبناء طائفتها، وشقيقها غضبان الرومي، المثقف والسياسي المعروف، أما زوجه فهي السيدة (قسمة الشيخ عنيس الفياض)، ووالدها أحد الصاغة العراقيين المشهورين. كتب لي الصديق الأستاذ عربي الخميسي، قائلا عن الراحل عبد الجبار عبد الله: " عرفته عن قرب وعائلته الكريمة ووالده المرحوم الكنزبري الشيخ عبدالله الشيخ سام رئيس الطائفة الصابئية المندائية في محلة الصابئة المندائيين في مدينة قلعة صالح، تلك المدينة التي ولدت أنا في أريافها، ومن ثم انتقلت إليها من الريف، وبذات مدرستها الابتدائية أنهيت دراستي الابتدائية حيث كانت تلك المحلة تؤلف اكبر محلات تجمع بشري بتلك المدينة، ومن ثم محلة اليهود في ذلك الوقت. وبحكم المكان والزمان تعايشنا مع الجميع وتعايشوا معنا بوئام وسلام أديان وأقليات من إسلام ويهود وصابئة مندائيين وقلة من المسيحيين ". 



وإذا كان مترجمنا عبد الجبار عبد الله سليل هكذا بيت له مكانة عليا عند الصابئة المندائيين، فالسؤال: لماذا عاش عبد الجبار في كنف أسرة فقيرة، كانت تعاني من شظف العيش ؟ ولماذا انعكست تلك المعاناة المبكّرة على صباه ؟ وهو يتذكرها بالقول: كنت ارتدي الثياب الصيفية في الشتاء، والتجوال حافي القدمين في سنوات طفولتي الأولى. سألت هذا السؤال، فأجابني عليه الأستاذ الخميسي قائلا: " كان الوضع الاقتصادي آنذاك ضعيف جدا والأعمال غير متوفرة ومختصره على زراعة الحبوب وزراعة النخيل وبعض محاصيل الأهوار المحيطة وصيد السمك والطيور المهاجرة.. والشيخ عبد الله الشيخ سام كان يعيش مثل غيره في حالة الكفاف رغم ترأسه الطائفة، وأحيانا يحل محل مختار المحلة عند فقدانه. وكان رجلا محترم جدا من قبل القائمقام والسلطة عامه آنذاك. والجواب على تساؤلكم عن حالة الفقر للشيخ: السبب هو أن رجل الدين المندائي متفرغ بالمطلق لخدمة أبناء الطائفة لوجه الله بدون عوض، والمعيشة كانت بسيطة جدا، وخصوصا أن الصابئي المندائي قنوع وصبور في طبيعته، يكتفي بمعيشته على أكل السمك بشكل كبير تعويضا عن اللحوم وعلى الإنتاج الحيواني مثل اللبن والحليب وعلى الإنتاج النباتي.. والتمر خاصة، وكل هذه متوفرة لدى صاحب الدار (البقرة وبستان النخيل والإثمار الأخرى ) والسمك من الأسواق بسعر بخس، وقلما يأكلون اللحم وتحديدا لحم الغنم الخروف فقط وفق أحكامهم الشرعية التي تحرم عليهم ذلك أما المصروفات العائلية للشيخ، فقد كانت تعتمد على بعض التبرعات البسيطة وغير المعلنة كما تقتضي الاحكام من بعض الوجهاء، ولهذا والى حد هذا اليوم، فان رجل الدين المندائي ضعيف ماليا، وهو راض عن حياته قناعه تامة.. سيدي أنا شخصيا تربيت بكنف عائله فقيرة أيضا، وما رواه المرحوم عبد الجبار عبد الله عن حاله كان صادقا في طرحه " ( انتهى النص ). 




يبدو لي أن طفولة عبد الجبار إبان الحرب العالمية الأولى كانت قاسية بحكم الظروف الصعبة التي مرّت بالعراق، إذ وعى بنفسه، والانكليز يحتلون البلاد، وان الدولة تتشكّل وهو في العاشرة من عمره. وكان قد أنهى دراسته الابتدائية في مدرسة قلعة صالح، التي تعد أول مدرسة ابتدائية تؤسس في لواء العمارة. دخل هذه المدرسة عام 1918 وتخرج فيها عام 1925، وهو في الرابعة عشرة، ثم يغادر إلى بغداد ليكمل دراسته الإعدادية في الثانوية المركزية بقلب بغداد عام 1930، وهو في التاسعة عشرة عند نهاية مرحلة مراهقته، متفوقاً بنتائجه على زملائه في الامتحانات، وتشير بطاقة درجاته الامتحانية إلى ميله الواضح للدروس العلمية، وخاصة في مادتي الرياضيات والفيزياء، وسيتفوق فيهما لاحقا. ويبدو واضحا أن عبد الجبار عبد الله قد سبق عبد الكريم قاسم بسنة واحدة أو سنتين في دراستهما بالثانوية المركزية التي كانت قد تأسست ببغداد عام 1918 لتدريس العلوم المدنية، وان الاثنين مع زملائهما المتميزين آنذاك قد شهدا زيارات الملك فيصل الأول للثانوية، إذ يقال انه كان يزورها يوميا ويسجل اسمه بلقب المعلم الأول ويراقب التدريسات والأنشطة الطلابية، ويتحدث إلى المدرسين ويتابع شؤون الطلبة، ويراقب ميولهم وتطلعاتهم، وهم يستمعون إليه والى توجيهاته. 


دراسته الجامعية وحياته الوظيفية الأولى

نعم، لقد عرف عن عبد الجبار تفوقه بين زملائه في الثانوية المركزية، ولعل ذلك كان سبباً وراء ترشيحه إلى بعثة دراسية خارج العراق. وقد شملت البعثات ستة وعشرين طالباً، من بينهم عبد الجبار عبد الله إلى الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1930، لدراسة العلوم، وخصوصا علم الفيزياء، فكانت أن مثلت بيروت له وبالذات الجامعة الأمريكية، انعطافة حقيقية، ومحطة جديدة ومهمة في حياته، إذ أسهمت بصورة فاعلة في بلورة شخصيته الثقافية والعلمية التي تشكّلت بوضوح بعد تخرجه في أروقة تلك الجامعة، مع كفاءة عالية بالانكليزية، وخبرة في المنهج. إن بعثات الطلبة الرسمية إلى الجامعة الأميركية في بيروت على ذلك العهد، لم يكن رصيدها إلا مؤهلات الطلبة الذين يتم اختيارهم دون أية اعتبارات أخرى ما دام كلهم من العراقيين. 




لقد قام لفيف من الطلبة العراقيين بتأسيس أول جمعية طلابية عراقية خارج العراق في العام 1930.. وضمت كّل من عبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد وعلي حيدر سليمان إلى جانب عبد الجبار عبد الله، وسيكون لكلّ واحد من هؤلاء شأن كبير في تطور العراق. وكانت هذه الجمعية النواة الأولى للرابطة الثقافية التي تشكلت في بغداد، فيما بعد، والتي أسدت دوراً ثقافياً وطنياً وديمقراطياً خلال عقد الأربعينيات من القرن الماضي، لتقف إزاء جمعيات أخرى ذات اتجاهات قومية. وأصدرت مجلة أسمها (الرابطة) التي شغل فيها عبد الجبار عبد الله مسؤولية (سكرتير التحرير) منذ صدور عددها الأول عام 1944.




شغف بالادب العربي والتراث العراقي

كان عبد الجبار عبد الله ميالا منذ صغره للموروث الثقافي لديانته الصبية المندائية، وكان حريصا على حفظ نصوص عدة من الكنزبرا، وهو الكتاب المقدس لها بكل ما احتوت تلك النصوص من تعاليم، وكان يرتلها دوما. كما وعشق منذ صبوته الأدب العربي، وشغف مع توالي الأيام والسنين بقراءات للشعر العربي بصورة خاصة، ويقال انه كان شغوفاً بالشعر الجاهلي. وحين اتسعت مداركه، ازداد تعلقه وشغفه بالكتب المتنوعة والمعرفة العامة، فقرأ الفلسفة والتاريخ إلى جانب كتب علمية مختلفة لا سيما تلك التي تتعلق باختصاصه العلمي. وقيل انه كان يوصي أصدقاءه بقراءة شعر أبي العلاء المعري، والمتنبي، وأبي تمام، وأبي نواس، على أن شاعره المفضل كان الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري. ولذلك لم تكن صدفة أن نجد بين مقتنيات مكتبة عالم فيزيائي كبير كتباً في الأدب العربي، أو معاجم للغة العربية. كما يروي أصدقاؤه وزملاؤه وأبناء عائلته، الذين أكدوا انه كان شاعراً يستأنس للكلمة الجميلة، ومثقفاً واعياً بأهمية التراث العربي، ومما يؤكد ذلك، قراءته المستمرة للتاريخ بشكل عام والتاريخ الإسلامي بشكل خاص. 




لقد جاء في واحدة من المفكرات اليومية للعام 1943، والتي تركها والدي القاضي الأستاذ كوكب علي الجميل بعد رحيله عام 1968، إذ كان يدون ما يصادفه من أحداث وشخوص لسنوات طوال، فجاء في مفكرة 1943، انه تعّرف ببغداد على أستاذ قدير في دار المعلمين العالية اسمه عبد الجبار عبد الله، وتوثقت عرى معرفتهما من خلال صديقهما المشترك داؤد الفداغ ( أصبح طبيبا شهيرا ) وهو من البصرة، إذ حضرا في احد أيام كانون الأول/ ديسمبر 1943 حفل افتتاح منتدى الرابطة الثقافية في بغداد، وكان الجميل في سنته الأخيرة بكلية الحقوق، وكان الفداغ في سنته الرابعة في كلية الطب.. وجاء أيضا: إن عبد الجبار عبد الله يمتلك طبعا هادئا، ويحفظ أشعارا رائعة من العصر العباسي، ومن خصاله انه سريع الحفظ إلى درجة إن قيلت أمامه أبيات شعر، حفظها مباشرة، وهو قارئ على درجة عالية من الثقافة اكتسبها من قراءاته وتعدد وتنوع مصادر ثقافته العلمية والإنسانية، فضلاً عن حرصه على تعلم اللغات غير العربية. ويبدو للمؤرخ ان الرجل كان واسع الاطلاع بحيث نجد ملاحظاته السديدة بشأن المندائيين في هوامش ترجمة كتاب عنوانه " العراق في القرن السابع عشر لتافرينييه " وقد قدم له المترجمان شكرهما على جهده.. كما أن له ملاحظاته أيضا على تاريخ العراق الاقتصادي.. فضلا عن كونه من الأساتذة الذين نصحوا المؤرخة العراقية البرتين جويدة كي تتخصص في تاريخ العراق الحديث. وقد حدثّني الصديق ولده الدكتور ثابت نقلا عن والدته أن زوجها عبد الجبار عبد الله طلب منها وهو في أيامه الأخيرة راقدا في المستشفى أن تأتيه بديوان الجواهري، وقد ودّع الحياة والديوان بيديه يقرأ أشعاره. 




وعليه، فإنني اعتقد أن الرجل كان واسع المدارك الثقافية، وله مواهب استثنائية، وذكاء قوي الدرجة، وكان صاحب علاقات إنسانية مع الآخرين، ويعتز بتاريخ العراق الثقافي، مما أهلّه ذلك كله لتكوين وعي وإدراك ومعرفة واسعة مع تفكير خصب وبعد نظر، وقد تناغمت مع ذلك كله، وطنية عميقة وحب للعراق وتواضع العلماء.. ألحقها جميعها بمكانة علمية دولية بقي يحافظ عليها حتى رحيله المبكر إلى بارئه في الولايات المتحدة الأميركية.. وترك إرثا علميا يعتز به طلبته ومعارفه وكل من تلقى العلم على يديه..

دوره في تأسيس منتدى (الرابطة) الثقافي

تحدثّنا سابقا أن عبد الجبار عبد الله، كان واحدا من المثقفين العراقيين الذين قاموا بتأسيس " الرابطة الثقافية " في العراق. وهي واحدة من التجمعات الثقافية والسياسية التي حفل العراق بها إبان الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. وهي محطة وضيئة في سيرة مثقفين عراقيين حقيقيين كانوا يؤمنون بالعمل الجمعي سواء كانوا ليبراليين أم راديكاليين أم قوميين.. وكانت فكرة الرابطة قد انبثقت في سني الحرب العالمية الثانية، وكان المؤسسون يأملون ويتطلعون منذ تلك الأيام على انتصار العراق ديمقراطيا، وهم يحملون همومهم السياسية والاجتماعية ضمن نزعة وطنية عراقية، ويحلمون بأهداف وتطلعات في التطور والتقدم للعراق.. في حين كان آخرون يعملون في نواد وجمعيات أخرى وهم يتطلعون على انتصار العراق قوميا، كونه بروسيا العرب وكانوا يحلمون بدوره في توحيد العرب.. لقد وجدت من خلال قراءتي تاريخ المثقفين العراقيين المعاصرين ( كتابي: انتلجينسيا العراق: المثقفون العراقيون في القرن العشرين ) أن المثقفين العراقيين، كانوا منقسمين إلى اتجاهين وطنيين اثنين إبان النصف الأول من القرن العشرين، أولاهما راديكالي النزعة، ويعمل ديمقراطيا من اجل العراق. وثانيهما ليبرالي النزعة، ويعمل قوميا من اجل العراق.. وقد اصطدم الاثنان لاحقا ! في مثل هذا الخضم، كان الدكتور عبد الجبار عبد الله قد اختار المحطة الأولى في حين اختار الدكتور عبد العزيز الدوري مثلا المحطة الثانية، وإذا كانا قد افترقا فكريا منذ البداية ضمن اتجاهين مختلفين، فلقد افترقا أكاديميا في نهاية المطاف. هذا مثل صارخ على انقسام الثقافة العراقية منذ بدء تكوينها المعاصر وحتى اليوم.




دعونا نبقى في إطار المحطة الأولى، ففي خضم ذاك المناخ الذي كانت فيه فسحة من الحريات السياسية والفكرية، فكر عبد الفتاح إبراهيم في تأسيس الرابطة، التي سينتمي إليها العديد من المثقفين الراديكاليين والليبراليين العراقيين. لقد أعلن عن تأسيسها في ديسمبر / كانون الأول 1943، وضمت قائمة المؤسسين إلى جانب المؤسس عبد الفتاح إبراهيم كّل من الأساتذة: خدوري خدوري، ومخلف ألعبيدي، وجمال عمر نظمي، وحازم نامق، وجميل عبد الله، فضلاً عن عبد الجبار عبد الله، وناظم الزهاوي، ومحمد توفيق حسين، وفاضل حسين وكامل قزانجي. وعبد القادر إسماعيل البستاني.




لقد التحق بالرابطة أيضا العديد من الشباب المثقفين العراقيين، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر كّل من الأساتذة: حسين جميل، وطه باقر، وكوركيس عواد، وعزيز شريف، وهاشم جواد.. وغيرهم. وكان أن ترك هذا المحور الجمعي بصماته على حياة العراق السياسية والثقافية، وعّبر عنه جيل مشبع بالحيوية والوطنية، كان تكوينه ممتازا في ظل عهد الملك فيصل الأول، ليؤتي أكله اثر الحرب العالمية الثانية.. ويؤثر تأثيرا كبيرا على دول المحيط بالعراق.. وسيكون العراق بؤرة إشعاع نهضوية يقصدها في عقدي الخمسينيات والستينيات، مئات الطلبة والدارسين العرب، لينهلوا من عطاء العراقيين وإبداعاتهم. لقد انصرف عبد الجبار عبد الله إلى شؤون الرابطة، مذ أوكلت إليه مهمة سكرتارية تحرير مجلة الرابطة، وبقي يكتب في شؤون فكرية وموضوعات اجتماعية.. وقد اطلعّت منذ سنوات على بعض ما كتبه من أفكار متقدمة على زمنها، وهي مخصبة بوعي وطني، وتوجه ديمقراطي، ومسحة اشتراكية.. لكنه لم يقّدم حلولا من لدنه لمشكلات كان يعاني منها اغلب العراقيين.. ونجده في هذا المجال، يختلف مع الأفكار التي يحملها عبد الفتاح إبراهيم الذي وقف على رأس تلك " الجماعة " المثقفة العراقية الشابة، وبقي عبد الجبار عبد الله يحترم ذكرى زملائه ويحترم الرابطة التي أسسوها، وظل وفياً لتلك الجماعة، وغير بعيد عنها. 




لقد كانت أنشطة الرابطة كبيرة من خلال المناقشات والمحاضرات وتشكيل لجان التأليف والنشر، وتأسيس مكتبة خاصة بها، ثم تأسيس شركة للطباعة سميت باسمها ( الرابطة). التي غدت في ما بعد تحت سيطرة الانقلابيين في 8 شباط / فبراير 1963، فآلت ملكياتها إلى الدولة لاحقا باسم دار الجماهير للطباعة. صحيح أن توجهات أعضاء الرابطة المؤسسين الفكرية والسياسية، قد تباينت بين يمين ووسط ويسار، إلا أن أهدافا وطنية مشتركة قد جمعتهم من دون أي أبعاد طبقية، أو اختلافات دينية، أو مفارقات طائفية، أو شوفينية كما تبلور ذلك في بنية المجتمع العراقي لاحقا ! كانوا جميعا يؤمنون بالديمقراطية والحريات والثقافة العليا وبالتغيير الاجتماعي نحو الأفضل وبناء العراق وتطويره بالسبل الجديدة. كان عبد الجبار عبد الله من أنشط أعضاء تلك الرابطة الشهيرة والمهمة، وسعى من اجل إشاعة توجهاتها الثقافية، ولكن بأسلوب تقدمي، إذ كان الرجل يميل إلى اليسار، ولم تكن لديه أية طموحات سياسية على خلاف غيره من أعضاء الرابطة الذين تنوعت اتجاهاتهم وتياراتهم، فلقد دخل عبد الفتاح إبراهيم مثلا إلى الساحة السياسية مؤسسا حزب الاتحاد الوطني لاحقا عام 1946، كي يلعب لعبته البرلمانية ولكن بقيت تطلعاته وتوجهاته وأهدافه تدور في ذات الحلقة الفكرية.

وظائفه ومناصبه

ومن المستغرب، أن يعود عبد الجبار عبد الله إلى وطنه بعد تخرجه في الجامعة الأميركية عام 1934 ليعين مدرساً للغة الانكليزية في المتوسطة الشرقية ببغداد، بعيداً عن اختصاصه الذي شغف به، فقرر العودة إلى مدينة العمارة ثانية، والعمل في ثانويتها كمدرس للرياضيات والفيزياء حتى عام 1938، إذ ينتقل إلى وظيفة جديدة في الأنواء الجوية بمطار البصرة. وعلى الرغم من أن وظيفته هذه أبعدته عن زملائه من الرموز الجديدة التي جاءت بآراء جديدة في الثقافة والفكر السياسي الوطني، إلا انه كان مقتنعا كما يبدو بأي وظيفة تشبع رغبته في ممارسة التخصص الذي يعشقه.. كان ذلك إبان عهد الملك غازي 1933- 1939 الذي اتسّم بتصاعد النزعة القومية في العراق، فانحسرت نشاطات عبد الجبار الثقافية العامة، لكنه عاد ثانيةً لنشر مقالاته العلمية في مجلة (التفيض) البغدادية، فقد نشر مقالته الأولى تحت عنوان " مبادئ النظرية النسبية من بطليموس إلى اينشتاين". ويبدو انه كان يراسل جمعيات بريطانية وغيرها مختصة بالأنواء الجوية وقد حصّل كما يقال على عضوية الجمعية الانكليزية للأنواء الجوية. 




وفي العام 1939، كان مصرع الملك غازي، ونشبت الحرب العالمية الثانية، وكانت هناك مرحلة مضطربة من تاريخ العراق في أثنائها، إذ غدا العراق مركز ثقل كبير في منطقة الشرق الأوسط في تجاذبات كل من الحلفاء والمحور، وانقسم العراقيون إلى قسمين سياسيا بتأثير تلك التطورات المخيفة، وضمن حملات التعبئة العسكرية التي أقدمت عليها الحكومة آنذاك، ينخرط عبد الجبار عبد الله في خدمة الاحتياط كضابط في الجيش، ويعود بعدها إلى مطار البصرة حتى عام 1941 الذي شهد أحداثا ثقيلة في العراق، وبعد أن هدأت الحال اثر القضاء على حركة رشيد عالي الكيلاني، ينتقل الرجل بعد تسريحه من الجيش إلى بغداد للتدريس في الثانوية المركزية التي كان طالبا فيها إبان العشرينيات، ويبقى فيها لغاية أيلول 1943، أستاذا لمادة الفيزياء للصف الخامس الثانوي رفقة زميله وصديقه الأستاذ هاشم الحسني. وكان عبد الجبار عبد الله قد عيّن مشرفا على امتحانات الباكالوريا للصف الخامس الثانوي عام 1942 في مدينة الموصل التي قدم إليها لهذه الغاية، فقام بذلك أحسن القيام.. تمضي الأيام، ويلمع اسمه من خلال أنشطته وضبط عمله وإخلاصه لمؤسسته، فتسنح الفرصة له مجدداً أن يتمتع ببعثة دراسية على حساب الحكومة العراقية، لنيل شهادة الدكتوراه في جامعات الولايات المتحدة عام 1944، وتمكن بفضل موهبته العالية من انجاز المهمة عام 1946، فيعود إلى العراق لتدريس اختصاصه في دار المعلمين العالية.

في دار المعلمين العالية

وكانت تلك " الدار " تعد من أمهات المدارس الأكاديمية في الشرق الأوسط كله إبان النصف الأول من القرن العشرين نظرا لقوة مكانتها العلمية، وثقل أساتذتها اللامعين، وإبداعات طلبتها الرائعين.. دعونا ننقل عن الصديق المؤرخ الدكتور إبراهيم خليل احمد ما سجله من ذكريات أحد خريجيها وهو الأستاذ التربوي المخضرم نزار المختار، قائلا: " وأورد الأستاذ المختار أسماء عدد من الأساتذة العرب الذين درسوه ومنهم الدكتور حلمي شاكر سمارة ( فلسطيني ) وجورج البارودي ( لبناني ) وإسماعيل حقي ( مصري ) وإميل جبر ضومط ( لبناني ) والدكتور محمد كامل النحاس ( مصري ) والدكتور شريف عسيران ( لبناني ).. ومن الأساتذة العراقيين الدكتور داؤد نصير وبهجت النقيب وسعيد صفو ومحي الدين يوسف وعبد الله عبوديا وسعدي الدبوني والدكتور محمود كنونه والدكتور جابر الشكري والدكتور سليم النعيمي والدكتور جابر عمر والدكتور محمد حسين آل ياسين والدكتور حسن الدجيلي والدكتور نوري جعفر.. وممن لم يدرسه الدكتور خالد الهاشمي والدكتور عبد الحميد كاظم والدكتور احمد عبد الستار الجواري والدكتور عبد العزيز الدوري والدكتور جاسم محمد الخلف والدكتور زكي صالح والدكتور عبد الجبار عبد الله والأستاذ خضر عبد الغفور والدكتور إبراهيم شوكت وجميع هؤلاء الأساتذة كانوا مشهورين ومتميزين ليس على صعيد العراق بل على الصعيد العربي كذلك بسبب مؤلفاتهم ونشاطاتهم العلمية " ( انتهى النص ). نعم، إنها كوكبة رائعة من ابرز الأسماء الأكاديمية التي تخرّج على يديها العديد من المبدعين العراقيين والعرب الذين درسوا في تلك الدار الأكاديمية العراقية الشهيرة قبل تأسيس جامعة بغداد.

رأي احد طلبته فيه: ما قاله الدكتور عدنان الظاهر

كتب الصديق الدكتور عدنان الظاهر أستاذ العلوم المعروف، كلمة مختصرة ومؤثرة جدا عن أستاذه الدكتور عبد الجبار عبد الله، ويلخص فيها من يكون هذا الإنسان العراقي قائلا: " من هو المندائي الآخر في دار المعلمين العالية ؟ إنه البروفسور الأشهر الدكتور عبد الجبار عبد الله. كان الأستاذ عبد الجبار مضرب المثل الأعلى في علمه وأخلاقه ومسلكه. كان طلبته يقدسونه تقديساً. كان بعض أصدقائي الحلاويين وغيرهم من طلبته يحكون عن علمه الأعاجيب. أتذكر منهم علي حسين وتوت وعبد الوهاب عبد الشهيد والمصلاوي حكمت فرجو والصديق النبيل أدور حنّا الساعور. بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 أصبح الدكتور عبد الجبار رئيساً لجامعة بغداد بعد منافسة مشهورة بينه وبين الدكتور عبد العزيز الدوري حسمها عبد الكريم قاسم بترجيح كفة الأستاذ عبد الجبار. ما زلت أتذكره كيف كان حريصاً على أداء رسالته التعليمية السامية وتربية شباب العراق إذ لم تمنعه مهمات رئاسة جامعة بغداد المعقدة من مواصلة التدريس بكل دقة. كنت أراه يأتي دار المعلمين العالية يقود سيارة جامعة بغداد بنفسه تعففاً من أن يقودها السائق المكلف بقيادتها. كانت سيارة فورد صالون أمريكية ماركة فورد سماوية اللون تحمل علامة ( رئاسة جامعة بغداد رقم واحد ). ما كانت تهمه المظاهر أبداً، فكان يأتي صيفاً وهو رئيس جامعة بغداد بقميص أبيض وبنطرون لا غير. لا بدلة كاملة ولا ربطة عنق. عرف العراقيون ما جرى لهذا العالم الجليل إثر إنقلاب الثامن من شباط / فبراير عام 1963 من إعتداءات وسجن وإبعاد من الوظيفة فأُضطر إلى مغادرة العراق والعمل والعيش في الولايات المتحدة الأمريكية إذ كان موضع تقدير وترحيب عاليين من قبل بعض الجامعات الأمريكية. غادر الدنيا في أمريكا وأظن إنه أوصى أن يدفن تحت تربة العراق، وطنه ووطن أجداده الأقدمين. يشرفنا أننا طلاب تلكم المرحلة أن يرعى البروفسور عبد الجبار عبد الله حفل تخرجنا صيف عام 1959 في ساحة ملعب الإدارة المحلية الكبيرة الواقعة في حي المنصور من بغداد. خطب في هذا الحفل عبد الكريم قاسم يقف إلى جانبه المرحوم عبد الجبار رئيس جامعة بغداد".

0 التعليقات:

إضغط هنا لإضافة تعليق

إرسال تعليق

Blogger Widgets